أخبار الساعة، منوعات

لمواجهة وباء الوحدة .. إليك كيف يعالج الدماغ المشاعر

يتحدث عموم الناس والشعراء والمغنون عن الشعور بالوحدة من زوايا مختلفة، وفيما تجعلها بعض القصص أحيانا شيئا رائعا، يعبر كثيرون عن أشكال من المعاناة والآلام النفسية.

وينبه موقع “العِلم” إلى أنه إذا شعرت بالوحدة يومًا ما، على الرغم من وجودك وسط أهلك وأصحابك، ومع توافر وسائل التكنولوجيا والاتصال المختلفة، فعليك الانتباه؛ فقد لا يكون ذلك شعورًا عارضًا، لأن هناك تشخيصًا صادمًا يعتبر أن وباء الوحدة “القاتل رقم واحد” في المجتمع العصري، وتأثيره على معدل عُمر الإنسان يفوق تأثير إدمان الكحول والبدانة.

لكن في المقابل، حسب “العلم”، فإن دراسات سابقة أظهرت أيضًا أن الحكمة -التي تُعرف بأنها القدرة على التفكير والتصرف باستخدام المعرفة والخبرة والبصيرة والتعاطف مع الآخرين- يمكن أن تصبح عاملًا يحمي الإنسان من الشعور بالوحدة.

هذه العلاقة العكسية بين الوحدة والحكمة تستند إلى عمليات دماغية مختلفة، تمثل مجالًا خصبًا لدراستها وفك رموزها على يد علماء الأعصاب؛ للإجابة عن سؤال مهم هو: كيف يعالج الدماغ المشاعر؟ وهل يقود ذلك إلى اكتشاف علاج فعال للوحدة يومًا ما؟

خطر قد يبلغ انتشاره أزيد من 14%

أعدت عالمة الأوبئة ميلودي دينغ وزملاؤها في جامعة سيدني تحليلا شاملا لـ 57 دراسة تناولت الشعور بالوحدة في 113 دولة أو منطقة بين عامي 2000 و2019.

وهذا التحليل، حسب “الميادين”، أشار إلى وجود مشكلة في التحديد الدقيق لزيادة حالات الشعور بالوحدة زمنياً ومكانياً، خاصةً مع عدم وضوح البيانات التاريخية حول هذه القضية، وصعوبة مقارنة الأرقام الحالية إن لاحظنا مرور الوقت واختلاف المناطق الجغرافية.

وكانت تقديرات الشعور بالوحدة متاحة غالباً حول المراهقين، فيما أظهرت النتائج أنّه بين 77 دولة تتراوح المشكلة من 9.2% في جنوب شرق آسيا إلى 14.4% في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط.

أما في أوروبا، فوجد المؤلفون اختلافات متعلقة بالجغرافيا، حيث تسجّل دول شمال أوروبا أدنى معدلات الشعور بالوحدة، حيث يعاني 2.9% فقط من الشباب و2.7% من البالغين في منتصف العمر من المشاعر السلبية. كما يعاني كبار السن الذين تزيد أعمارهم عن 60 عاماً من الشعور بالوحدة بمعدل أعلى يبلغ 5.3%.

من ناحية أخرى، أظهرت دول أوروبا الشرقية علامات وحدة أكثر من أي مكان آخر في أوروبا، حيث أبلغ الشباب في أوروبا الشرقية عن الشعور بالوحدة بمعدل 7.5%، بينما أبلغ البالغين في منتصف العمر عن شعور بالوحدة بمعدل 9.6%.

أما كبار السن في هذا الجزء من أوروبا فهم الأكثر عزلة، حيث بلغت نسبتهم 21.3%.

ووفق التحليل، لا يمكن للبيانات أن تخبر لماذا يبدو سكان أوروبا الشرقية أكثر عزلة بشكل عام، لكن إحدى الدراسات المشمولة في المراجعة تشير إلى أنّ ذلك يرجع إلى سوء الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية.

وحسب “العلم”، الأرقام المسجلة في أمريكا حديثًا بخصوص الشعور بالوحدة بمنزلة مؤشر خطر وجرس إنذار، فهناك أكثر من ثلث الأشخاص البالغة أعمارهم 45 عامًا يشعرون بالوحدة، وما يقرب من ربع الأشخاص في عمر 65 عامًا يعتبرون معزولين اجتماعيًّا، وقد زادت تلك العزلة بشكل كبير من مخاطر تعرُّضهم للوفاة المبكرة، وباتت خطرًا ينافس مخاطر التدخين والسمنة وقلة النشاط البدني، كما كانت سببًا في الإصابة بالخرف بنسبة 50%، وأمراض القلب بنسبة 29%، والسكتة الدماغية بنسبة 32%، بالإضافة إلى رفع معدلات الاكتئاب والقلق والانتحار.

علاقة عكسية بين الوحدة والحكمة

حسب “العلم”، صعوبة الإجابة عن سؤال كيف يعالج الدماغ المشاعر؟ تكمن في عدم وجود علامات بيولوجية يمكن قياسها في الدماغ حول كيفية معالجة المخ للمعلومات لدى الأشخاص الأكثر وحدةً أو الأكثر حكمة، وهو ما حاول فريق بحثي أمريكي من كلية الطب بجامعة كاليفورنيا سان دييجو، التوصل إليه.

وكشفت الدراسة التي نشرها ذلك الفريق البحثي سنة 2021 من دورية سيريبرال كورتيكس (Cerebral Cortex) أن مناطق معينة من الدماغ تستجيب للمنبهات العاطفية المتعلقة بالوحدة والحكمة بطرق متعارضة.

تقول جيوتي ميشرا، قائد فريق البحث، والأستاذ المساعد في قسم الطب النفسي في كلية الطب بجامعة كاليفورنيا سان دييجو: إن النتيجة الرئيسية للدراسة هي أننا وجدنا استجابات دماغية متعارضة مرتبطة بالعواطف تجاه الشعور بالوحدة مقابل التمتع بالحكمة (التي تُعرف بأنها القدرة على التفكير والتصرف باستخدام المعرفة والخبرة والبصيرة والتعاطف مع الآخرين).

تشدد “ميشرا” في تصريحات لـ”للعلم”، على أن “هذه النتائج ذات صلة بالصحة العقلية والجسدية للأفراد؛ لأنها تعطينا أساسًا بيولوجيًّا عصبيًّا موضوعيًّا حول كيفية معالجة الأشخاص الأكثر وحدةً أو الأكثر حكمةً للمعلومات”.

وتابعت أن “وجود علامات بيولوجية دالة على هاتين الحالتين يمكننا قياسها في الدماغ قد يساعدنا في تطوير علاجات فعالة للوحدة، وربما يُمكّننا ذلك من الإجابة عن سؤال: هل يمكنك جعل الشخص أكثر حكمةً أو أقل شعورًا بالوحدة؟ الجواب يمكن أن يساعد في التخفيف من مخاطر الشعور بالوحدة”.

مشاعر مختلفة

للوصول إلى نتائج الدراسة، تابع الفريق 147 مشاركًا، تتراوح أعمارهم بين 18 و85 عامًا، وكانوا يتمتعون بصحة جيدة، وأخضعوهم لاختبار يتمثل في عرض صور وجوه ذات مشاعر مختلفة، تتضمن 4 مجموعات من المشاعر هي: محايدة وسعيدة (إيجابية) وغاضبة وحزينة (سلبية أو مهددة)، في سياق ما يُعرف بالتحيز العاطفي.

وفي هذه الأثناء خضع المشاركون لمهمة معرفية بسيطة، تتمثل في تحديد الاتجاه الذي يتم توجيه “السهم” إليه، في أثناء عرض وجوه ذات مشاعر مختلفة على شاشة كمبيوتر جلس أمامها المشاركون.

قاس الفريق سرعة استجابة المشاركين لتحديد اتجاه السهم بالـ”مِلِّي ثانِيَة” (وحدة زمنية تساوي جزءًا من الألف من الثانية)، واستغرق عرض كل صورة على الشاشة 500 مِلِّي ثانِيَة، في حين بلغ وقت ظهور السهم على الشاشة 300 مِلِّي ثانِيَة، واحتسبوا الوقت الذي استغرقه المشاركون لتحديد اتجاه السهم، وذلك لرصد تأثير عرض المشاعر المختلفة على سرعة استجابة الأشخاص للمعلومات.

جاء ذلك بالتزامن مع إخضاع المشاركين لمخطط كهربية الدماغ (EEG)، وهو اختبار يكتشف النشاط الكهربائي في الدماغ باستخدام أقطاب كهربائية صغيرة متصلة بفروة الرأس، لرصد رد فعل الدماغ تجاه المشاعر المختلفة.

وعن نتائج هذا الاختبار قالت “ميشرا”: “وجدنا أنه عندما تم تقديم الوجوه التي تُعبّر عن الغضب على أنها عوامل تشتيت للانتباه، فإنها تبطئ بشكل كبير الاستجابات المعرفية البسيطة لدى الأفراد الذين يعانون من الوحدة؛ إذ ظهر ذلك في بطء تحديد اتجاه السهم في أثناء عرض صور الوجوه الغاضبة، وهذا يعني أن الأفراد الأكثر عزلةً يهتمون بمحفزات التهديد، مثل الوجوه الغاضبة”.

وأضافت: “من ناحية أخرى، وجدنا علاقة إيجابية مهمة بين الحكمة وسرعة الاستجابة في تحديد السهم عند إظهار الوجوه ذات المشاعر السعيدة، وتحديدًا الأفراد الذين أظهروا سمات أكثر حكمة، مثل التعاطف، وكان لديهم استجابات أسرع لتحديد اتجاه السهم في وجود منبهات سعيدة”، لقد كان الفريق البحثي مهتمًّا بكيفية ارتباط كلٍّ من الوحدة والحكمة بالتحيُّزات العاطفية، وكيف يستجيب البشر لمختلِف المشاعر الإيجابية والسلبية.

وأشارت “ميشرا” إلى أن الشعور بالوحدة ارتبط باهتمام أكبر بمحفزات الانفعالات الغاضبة أو المهددة مع استجابة متزايدة في “الموصل الصدغي الجداري” والقشرة الجدارية العلوية اليسرى لهذه المنبهات، وبينما قامت الحكمة بتنشيط الـ(TPJ) في وجود محفزات عاطفية سعيدة، فإن الأفراد الذين لديهم سمات أكثر حكمةً قاموا أيضًا بتنشيط الدوائر المهمة للتنظيم الذاتي العاطفي في “القشرة الجزيرية”.

علاج الوحدة

من جانبها، حسب نفس المصدر، قالت باتريشيا كوريا، أستاذ علم الأعصاب السلوكي المساعد، بالجامعة الأمريكية في القاهرة: إن هذه الدراسة الحديثة توضح كيف تعدل العواطف الارتباطات المعرفية والعصبية للوحدة.

وأضافت لـ”للعلم” أن ما يميز النتائج أن الفريق استخدم عينةً كبيرةً من البشر، لا لدراسة الشعور بالوحدة فحسب، بل لرصد تأثير الحكمة على المشاعر والعواطف أيضًا.

وأوضحت أن الدراسة كشفت تأثيراتٍ مختلفةً للعواطف في الدوائر العصبية للوحدة والحكمة، وأن الشعور بالوحدة يرتبط بانخفاض سرعة معالجة المعلومات عندما يتم تقديم المنبهات العاطفية الغاضبة كمشتتات، أما الحكمة فترتبط بزيادة سرعة المعالجة عند تقديم محفزات عاطفية سعيدة.

وعن أهمية النتائج، أشارت “كوريا” إلى أنه من المؤكد أن أمامنا طريقًا طويلةً لنفهم تمامًا علم أعصاب الوحدة والحكمة، لكن الدراسة تسهم في تحديد الارتباطات المعرفية والعصبية بهما، وقد يكون لهذه النتائج تأثيرٌ في تطوير علاجات طبية للوحدة في المستقبل، رغم أننا ما زلنا بعيدين عن تطبيق هذه النتائج على العلاجات المباشرة في الوقت الراهن، وتابعت أنه من المهم التحقيق في البيولوجيا العصبية للوحدة، لا سيما ونحن نعيش أوقات العزلة الاجتماعية الحالية التي فرضتها ظروف وباء “كوفيد-19” على الناس في جميع أنحاء العالم.

تركيبة معقّدة

معتز عاصم -الباحث المشارك في وحدة الإدراك وعلوم الدماغ بمركز البحوث الطبية، كلية الطب السريري، جامعة كامبريدج في بريطانيا- اعتبر أن الوحدة والحكمة من التركيبات المعرفية المعقّدة، والتي قد تبدو غير مرتبطة، ولكنها في الواقع مرتبطة ارتباطًا سلبيًّا أو عكسيًّا، ويعني ذلك أنه كلما ارتفعت درجة الشعور بالوحدة لدى الشخص، انخفضت لديه درجة الحكمة.

وأضاف في حديث لـ”للعلم” أن التركيز الرئيسي للدراسة هو اختبار الإطار النظري المتعلق بالوحدة والحكمة، والذى يفترض أنه نظرًا إلى أن الشخص الوحيد ليس لديه دائرة حماية اجتماعية، فمن المرجح أن يكون أكثر انتباهًا للتهديدات السلبية، بينما يَرجُح أن يكون الشخص الحكيم أو المرتبط اجتماعيًّا أكثر يقظةً بشأن المشاعر الإيجابية.

وتابع أنه لاختبار تلك الفرضية، طلبت الدراسة من المشاركين المشاركة في اختبار معرفي على الكمبيوتر في أثناء مشاهدة وجوه سعيدة أو حزينة أو غاضبة، ومن المثير للاهتمام أن الدراسة وجدت أن الأشخاص الذين حصلوا على تصنيف أعلى على مقياس الوحدة كانوا أبطأ في النقر على زر عندما رأوا وجهًا غاضبًا، ولكن ليس عندما رأوا وجهًا سعيدًا أو حزينًا، من ناحية أخرى، فإن الأشخاص الذين حصلوا على تصنيف أعلى بمقياس الحكمة استجابوا بشكل أسرع للوجوه السعيدة، ولكن ليس على الوجوه الغاضبة أو الحزينة، وتوفر هذه النتائج بعض الدعم للفرضية الأصلية.

وأشار “عاصم” إلى أن الفريق أراد أن يرصد عمليات الدماغ التي تقف وراء هذه النتائج السلوكية، لذلك قام بقياس الموجات الكهربائية في الدماغ باستخدام مخطط كهربية الدماغ (EEG)، وهو غطاء رأس مليء بأقطاب كهربائية تقيس تغيرات الجهد التي تحدث في الدماغ ولكنها قادرة على الوصول إلى فروة الرأس.

وتابع أن موجات الدماغ لها ترددات مختلفة، بعضها سريع والبعض الآخر بطيء، وركز الباحثون في هذه الدراسة على موجات الدماغ الأبطأ التي يُفترض أنها مرتبطة بالاتصال بعيد المدى بين مناطق الدماغ، ووجدوا أن موجات الدماغ البطيئة في نطاق ثيتا (هو نطاق التردد من 4- 8 هيرتز) في مناطق الدماغ الزمنية (جانب رأسك، خلف أذنيك مباشرة) مرتبطة بالوحدة والحكمة، إذ سجل المشاركون الذين احتلوا مرتبةً أعلى على مقياس الشعور بالوحدة نشاطًا أقوى لـ”نطاق ثيتا” في أثناء مشاهدة الوجوه الغاضبة، لكن المشاركين الذين احتلوا مرتبةً أعلى على مقياس الحكمة كان لديهم نشاط أقوى للثيتا في أثناء مشاهدة الوجوه السعيدة.

وعن أهمية تلك النتائج، نوه “عاصم” بأنها تشير إلى أن تنشيط “نطاق ثيتا” من مناطق الدماغ الزمنية يؤدي دورًا في النشاط الاجتماعي، ويتوافق هذا مع نتائج التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، التي أثبتت أن المناطق الزمنية مرتبطة بتقييم المواقف الاجتماعية.

واختتم حديثه بأن النتائج توفر تقاربًا لطيفًا للأدلة من طرائق مختلفة، وتفتح الطريق أمام تفكيك التركيبات المعقّدة للوحدة والحكمة في عملياتها العصبية الأساسية، ويمكن أن تجعلنا في النهاية نفهم الفروق الفردية في الشخصيات الاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *